فصل أحوال القلب مع عسكره
اعلم أن للقلب مع عسكره أحوالا وصفات، بعضها يسمى أخلاق السوء، وبعضها أخلاق الحسن فبالأخلاق الحسنة يبلغ درجة السعادة، وبالأخلاق السيئة هلاكه وخروجه للشقاء.
وهذه كلها تبلغ أربعة أجناس: أخلاق الشياطين، أخلاق البهائم، أخلاق السباع، أخلاق الملائكة.
فأعمال السوء: من الأكل والشرب، والنوم، والنكاح؛ هي أخلاق البهائم.
وكذلك أعمال الغضب: من الضرب، والقتل، والخصومة هي أخلاق السباع.
وكذلك أعمال النفس: وهي المكر، والحيلة، والغش، وغير ذلك؛ هي أخلاق الشياطين.
وكذلك أعمال العقل؛ التي هي الرحمة، والعلم، والخير؛ هي أخلاق الملائكة.
فصل الأخلاق الحسنة والأخلاق القبيحة
واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء: الكلب، الخنزير، الشيطان، الملك.
والكلب مذموم في صفاته، وليس بمذموم في صورته. وكذلك الشيطان والملائكة، ذمهم ومدحهم في صفاتهم، وليس ذلك في صورهم وخلقهم. وكذلك الخنزير مذموم في صفاته، وليس بمذموم في خلقته.
وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظلم الجهل بنور العقل؛ خوفا من الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: )ما من أحد إلا وله شيطان، ولي شيطان، وأن الله قد أعانني على شيطاني حتى أسلم(. وكذلك الشهوة والغضب، ينبغي أن يكونا تحت يد العقل، فلا يفعل شيئا إلا بأمره، فإن فعل ذلك صح له حسن الأخلاق، وهي صفات الملائكة، وهي بذر السعادة. وإن عمل بخلاف ذلك، فخدم الشهوة والغضب، صح له الأخلاق القبيحة، وهي صفات الشياطين، وهي بذر الشقاء. فيتبين له في نومه كأنه قائم مشدود الوسط يخدم الكلب والخنزير، وكان مثله كمثل رجل مسلم يأخذ رجالا مسلمين يحبسهم عند كافرين. فكيف يكون حالك يوم القيامة إذا حبست الملك - وهو العقل - تحت يد الشهوة والغضب، وهما الكلب والخنزير?
فصل هل الصور تابعة للمعاني?
واعلم أن الإنسان في صورة ابن آدم اليوم، وغداً تنكشف له المعاني، فتكون الصور في معنى المعاني.
فأما الذي غلب عليه الغضب، فيقوم في صورة الكلب. وأما الذي غلب عليه الشهوة، فيقوم في صورة الخنزير؛ لأن الصور تابعة للمعاني. وإنما يبصر النائم في نومه ما صح في باطنه. وإنما عرفت أن الإنسان في باطنه هذه الأربعة، فيجب أن يراقب حركاته وسكناته، ويعرف من أي الأربعة هو؛ فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة. وإن بقي من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر السعادة، وإن بقي معه غير ذلك فهو بذر الشقاء.
وابن آدم لا ينفك ولا ينفصل عن حركة أو سكون، وقلبه مثل الزجاج، وأخلاق السوء كالدخان والظلمة، فإذا وصل إليه ذلك أظلم عليه طريق السعادة. وأخلاق الحسن كالنور والضوء، فإذا وصل إلى القلب طهره من ظلم المعاصي، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أتبع السيئة الحسنة تمحها(. والقلب إما مضيء أو مظلم، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.
فصل في عجائب القلب
اعلم أن للقلب بابين للعلوم: واحد للأحلام، والثاني لعالم اليقظة.
وهو الباب الظاهر إلى الخارج، فإن نام غلق باب الحواس، فيفتح له باب الباطن ويكشف له غيب من عالم الملكوت، ومن اللوح المحفوظ؛ فيكون مثل الضوء، وربما احتاج كشفه إلى شيء من تعبير الأحلام. وأما ما كان من الظاهر، فيظن الناس. أن به اليقظة، وأن اليقظة أولى بالمعرفة، مع أنه لا يبصر في اليقظة شيء من عالم الغيب، وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس.
فصل القلب مثل المرآة
وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضا؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت؛ فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ.
وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال؛ لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفا فإذا مات - أي القلب - بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس. وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له: (فَكَشَفنا عَنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَديد).
فصل متى يحجب القلب عن مطالعة عالم الملكوت?
واعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم، وبيان الحق على سبيل الإلهام.
وذلك لا يدخل من طريق الحواس، بل يدخل في القلب، لا يعرف من أين جاء؛ لأن القلب من عالم الملكوت، والحواس مخلوقة لهذا العالم )عالم الملك( . فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.
فصل متى يطالع القلب عالم الملكوت?
ولا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة.
فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما: )الله- الله- الله( بقلبه، دون لسانه، إلى أن يصير لا خير معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجملية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: )زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها( وقال الله عز وجل: (وَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَماواتِ وَالأَرض). لأن علوم الأنبياء عليهم السلام كلها كانت من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، كما قال سبحانه وتعالى: (وَاِذكُرِ اِسمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّل إِلَيهِ تَبتيلاً)، معناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية. وهو طريق الصوفية في هذا الزمان. وأما طريق التعليم، فهو طريق العلماء. وهذه الدرجة الكبيرة مختصرة من طريق النبوة، وكذلك علم الأولياء؛ لأنه وقع في قلوبهم بلا واسطة من حضرة الحق، كما قال سبحانه وتعالى: (آتَيناهُ رَحمَةً مِن عِندِنا وَعَلَّمناهُ مِن لَدُنّا عِلماً).
وهذه الطريق لا تفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم. والواجب التصديق بها حتى لا تحرم شعاع سعادتهم، وهو من عجائب القلب. ومن لم يبصر لم يصدق، كما قال سبحانه وتعالى: (بَل كَذَّبوا بِما لَم يُحيطوا بِعِلمِهِ وَلَمّا يَأتِهِم تَأويلُهُ)، وقوله: (وَإِذ لَم يَهتَدوا بِهِ فَسَيَقولونَ هَذا إِفكٌ قَديم).
فصل من طلب وجد
ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء؛ لأن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم، إلا الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء، أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك لأنه قد تلف.
وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة)، وقال الله تعالى: (وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالوا بَلى). وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى: (فِطرَتَ اللَهِ الَّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيها)، والأنبياء والأولياء هم بنو آدم، قال سبحانه وتعالى: (قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم).
فكل من زرع حصد، ومن مشى وصل، ومن طلب وجد، والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة: طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا الطريق وإذا حصل هذان الشيئان لأحد، فقد أراد الله له التوفيق والسعادة بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة.
فصل ما هي أعظم اللذات?
إن اللذة والسعادة لابن آدم معرفة الله سبحانه وتعالى.
اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى لأنه مخلوق لها.
وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به، مثل لعبة الشطرنج، إذا عرفها فرح بها، ولو نهى عنها لم يتركها ولا يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة.
وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر. ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف الملك لكان أعظم فرحاً.
وليس موجودا أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته؛ فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته.
وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت.
ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب، فلا تبطل بالموت؛ لأن القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر، وضوؤه أكبر؛ لأنه خرج من الظلمة إلى الضوء.
فصل النفس مختصرة من العالم
واعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم، وفيها من كل صورة في العالم أثر منه؛ لأن هذه العظام كالجبال، ولحمه كالتراب، وشعره كالنبات، ورأسه كالسماء، وحواسه مثل الكواكب. وتفصيل ذلك طويل.
وأيضا فإن في باطنه صناع العالم؛ لأن القوة في المعدة كالطباخ، والتي في الكبد كالخباز، والتي في الأمعاء كالقصار، والتي تبيض اللبن وتحمر الدم كالصباغ. وشرح ذلك يطول.
والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك، وأنت في غفلة عنهم، وهم لا يستريحون، ولا تعرفهم أنت، ولا تشكر من أنعم عليك بهم!!
فصل في معرفة تركيب الجسد
ومنافع الأعضاء التي يقال عنها في علم التشريح
وهو علم عظيم، والخلق غافلون عنه، وكذلك علم الطب. فكل من أراد أن ينظر في نفسه وعجائب صنع الله تعالى فيها يحتاج إلى معرفة ثلاثة أشياء من الصفات الإلهية:
الأولى: أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكمال، وليس بعاجز، وهو الله سبحانه وتعالى. وليس عمل في العالم بأعجب من خلق الإنسان من ماء مهين، وتصوير هذا الشخص بهذه الصورة العجيبة، كما قال سبحانه وتعالى: (إِنّا خَلَقنا الإِنسانَ مِن نُطفَةٍ أَمشاجٍ نَبتَليهِ)؛ فإعادته بعد الموت أهون عليه؛ لأن الإعادة أسهل من الابتداء.الثانية: معرفة علمه سبحانه وتعالى، وأنه محيط بالأشياء كلها؛ لأن هذه العجائب والغرائب لا تمكن إلا بكمال العلم.
الثالثة: أن تعلم أن لطفه ورحمته وعنايته متعلقة بالأشياء كلها، وأنها لا نهاية لها؛ لما ترى في النبات والحيوان والمعادن من سعة القدرة وحسن الصور والألوان.
فصل في تفصيل خلقة بني آدم
لأنها مفتاح معرفة الصفات الإلهية، وهو علم شريف. وذلك معرفة عجائب الصنائع الإلهية، ومعرفة عظم الله - سبحانه وتعالى - وقدرته.
وهو مختصر معرفة القلب، وهو علم شريف؛ إذ هو معرفة الصنائع الإلهية؛ لأن النفس كالفرس، والعقل كالراكب، وجماعهما الفارس. ومن لم يعرف نفسه، وهو يدعي معرفة غيره، فهو كالرجل المفلس الذي ليس له طعام لنفسه وهو يدعي أنه يقوت فقراء المدينة، فهذا محال.
فصل متى تفضل البهائم ابن آدم?
إذا عرفت هذا العز، والشرف، والكمال، والجمال، والجلال، بعد أن عرفت جوهر القلب أنه جوهر عزيز، قد وهب لك، وبعد ذلك خفي عنك.. فإن لم تطلبه، وغفلت عنه، وضيعته، كان ذلك حسرة عظيمة عليك يوم القيامة؛ فاجتهد في طلبه، واترك أشغال الدنيا كلها وكل شرف لم يظهر في الدنيا، فهو في الآخرة فرح بلا غم، وبقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، ومعرفة بلا جهل وجمال وجلال عظيمان.
وأما اليوم، فليس شيء أعجز منه؛ لأنه مسكين ناقص. وإنما الشرف غداً، إذا طرح من هذه الكيمياء على جوهر قلبه، حتى يخلص منه شبه البهائم، ويبلغ درجة الملائكة. فإن رجع إلى شهوات الدنيا، فضلت عليه البهائم يوم القيامة؛ لأنها تصير إلى التراب، ويبقى هو في العذاب.. نعوذ بالله من ذلك، ونستجير به، وهو نعم المولى ونعم النصير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.